بقلم / الاستاذ عبد الرحمن بشير
كاتب ومحلل سياسي
…………………………………………………………………
لقد طوى الإئتلاف الحاكم فى إثيوبيا صفحة من التاريخ ، وبدأ يسجل سطورًا فى صفحة جديدة من تاريخ هذا البلد المحوري فى القارة الأفريقية ، فقد تم ترشيح لإختيار أول حاكم من قومية أورومو ذات الأغلبية ، وتعتبر هذه الخطوة سابقة تاريخية ، ذلك لأن الحكم فى هذه الدولة كان بين قوميتين معروفتين وهما ، القومية الأمهرية التى حكمت الوطن قرنا ونيفا من الزمان ، والقومية التغرانية التى عادت إلى الحكم منذ سقوط النظام الشيوعي عام ١٩٩١م ، وبقيت فى الحكم بشكل مباشر وغير مباشر فى عقدين ونصف من الزمان .
إجتمع المجلس الحاكم لإثيوبيا ، والمكون من ١٨٠عضوا ، يمثلون بمجموعهم الجهة العليا والحاكمة منذ أسبوعين لتقرير مصير الوطن ، وذلك بعد أن أعلن إستقالته رئيس الوزراء السابق السيد هيلا ماريام دسي قبل أشهر ، ودخل الوطن فى مرحلة حرجة ، والسبب هو أن القومية العميقة ( الأورومو ) قادت الإحتجاجات والمظاهرات ، والتى أدت إلى وضع البلد فوق البركان ، وازدادت الأمور سخونة بعد أن شاركت القومية الأمهرية ( الدولة العميقة ) المظاهرات والإحتجاجات ، ولكنها توقفت عن ذلك قبل عشرة أشهر ، ولَم تستطع الحكومة أن توقف الإحتجاجات ، وقد إستخدمت كل الوسائل الممكنة لها ، ومن هنا تقدم رئيس الوزراء السابق إستقالته ليعلن على الملأ بأن الوطن يحتاج إلى حل جذري ، وهو كشخص حاكم بلا صلاحيات لا يقدر على قيادة الوطن فى هذه المرحلة .
المخاض صعب ، والولادة غير مكتملة .
…………………………………………………
دخل الحزب الحاكم ( التغراي ) مرحلة جديدة ، تبدت له من خلالها أن المرحلة القادمة برجالها ونسائها وشبابها ، لن تكون كالمرحلة القادمة ، فلا بد من تغيير للخريطة السياسية ، ومن هنا فهو بين خيارين لا ثالث لهما :
أولا : الخيار الإستراتيجي لصالح الوطن ، وهو أن يتنازل عن الحكم ، ويجعل الوطن كله فى طاولة الحوار بين القوى السياسية المختلفة من الموالين والمعارضين ، وذلك أمر عسير لأسباب سياسية ، ولكن ذلك الخيار هو الأنفع للمدى البعيد ، ولو كانت ولادته عسيرة ، وذات خطورة عالية .
ثانيا : الخيار التكتيكي ، وهو أن يلعب بجميع الأوراق السياسية بذكاء سياسي ، ومن هنا إختار الحزب التغراني هذا الأسلوب ، وأعاد الأمر إلى الحزب الحاكم ، وهو الإئتلاف الحاكم ( الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية) ، وهي الجهة التى تمثل المرجعية فى القرار .
إن الخيار الثانى يمثل نقطة تحول تكتيكي ، ولا يمثل نقطة تحول إستراتيجي ،ولكنه عند القومية الحاكمة يمثل لها حفاظا على المكتسبات التى تحققت لها ، وتوزيعا للقوى المعارضة ، وتفريقا للصف الثوري ، وهي من الناحية الأمنية إستراتيجية ، ولكنها من الناحية السياسية تكتيكية ، فهي رؤية مركبة ، وقد خرجت من توصيات رجال الأمن والجيش ، وهاتين المؤسستين تحت القومية التغرانية .
لقد خططت القومية التغرانية شق الصف المعارض ، وخاصة القوميتين ذات البعدين الإستراتيجيتين ، وهما القومية الأمهرية ذات الثقل التاريخي والسياسي ، والقومية الأورومية ذات الثقل العددي ، والنوعي ، ولكن الخطة فشلت ، وذلك بعد أن تنازلت القومية الأمهرية لصالح القومية الأورومية ، وكانت المفاجآة فى توحيد القوميتين على الخيار الواحد المتمثل بالدكتور آبي أحمد رئيسا للوزراء فى المرحلة القادمة ، وهو من القومية الأورومية ذات الأغلبية السكانية والجغرافية .
من هو الدكتور آبي أحمد ؟
…………………………………
يعتبر الرجل ناشطا سياسيا ، لأنه دخل السياسة وهو إبن الخامس عشر من عمره ، فهو من مواليد عام ١٩٧٦م ، حيث أصبح عضوا فى الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو عام ١٩٩٠م ، والتحق بعد سقوط الدرچ ( النظام الشيوعي ) القوات المسلحة ، وخاصة فى وحدة المخابرات والمعلومات والإتصالات العسكرية ، وتدرج فى الجيش حتى وصل منه درجة العقيد ، وتدرج فى العمل السياسي ليتبوأ فيما بعد العضوية فى اللجنة التنفيذية للإئتلاف الحاكم من عام ٢٠١٠م ، وأصبح عضوا فى البرلمان فى عام ٢٠١٠م ، فوزيرا لوزارة العلوم والتكنولوجيا ، ثم حاكما لإقليم أورومو ، وهو رجل أكاديمي متخصص فى هندسة الكمبيوتر ، ولديه خبرة طويلة فى المجال العسكري والأمني والسياسي .
يعتبر الرجل وسطا بين روح المؤسس لدولة إثيوبيا الحديثة ملس زيناوي ، وروح رئيس الوزراء السابق المستقيل السيد هيلا ماريام ، ذلك لأن الأول كان لديه روح القيادة فطرة ، ووراءه قومية حاكمة ، بينما الثانى كانت لديه معرفة أكاديمية ، ولكن لم تكن وراءه قوة سياسية تحمى مشروعه ، ومن هنا لم يستطع مواجهة القوى المتناقضة ، ولكن هذا الرجل ( آبي أحمد ) لديه تاريخ سياسي تعطيه قوة ، ذلك لأن الرجل عمل فى داخل الدولة الصلبة ، وعنده خبرة غير عادية فى كيفية تسيير البلد ، وهو بلد كما هو معروف مسيّر من قبل الجيش والأمن ، والرجل إبن مؤسس للجيش الحديث ومؤسسته الأمنية والمخابراتية ، وينتمي إلى القومية ذات الأغلبية السكانية والجغرافية ، ولا يمثل تهديدا للأمن الداخلي ، فهو مسيحي وقد يكون مقبولا لدى الكنيسة مرحليا ، فهو عندها أخف الضررين .
فى مقال لى فى هذه الصفحة ، ومن قبل عام ونصف ، تحدثت عن هذا السيناريو كخيار محتمل من إحتمالات ثلاثة ممكنة الوقوع ، ولكن هذا الخيار ذاته ليس حلا للمشكلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى هذا الوطن المحوري ، وفى هذه المرحلة الحرجة .
هناك محددات ثلاثة سوف تجعل هذا الخيار مقبولا وممكن الإستمرار ، وهي :
١- القبول الشعبي ، وخاصة عند الشباب المتعطش للتغيير فى حياته الإجتماعية والإقتصادية ، وهذا لا يمكن فى ظل الحالة السياسية المالية ، والتى ربطت الخصخصة والثروة بالحكم ورجاله ، ولهذا فلا بد من طرح رؤية مغايرة لنظام الخصخصة الذى جعل الوطن كله شركة خالصة لزمرة الحكم ، فإذا إستمر النظام على السياسة القديمة ، فلن تتغير الأوضاع ، وبالتالي فإنها تؤدى إلى إستدامة الثورات والهيجان ، فهناك مثل إثيوبي يقول : لا فائدة من تغيير الطعام مع بقاء القدر .
٢- وجود قبول من المعارضة لهذا النوع من التغيير ، وخاصة من المعارضة النوعية من القوميتين ، الأورومية والأمهرية ، وهذا شرط أساسي فى نجاح التغيير التكتيكي .
٣- عدم محاولة القوة الخفية إفشال هذاالمشروع ، وهذه القوة الخفية تتمثل بالقوات المسلحة ، ورجال الأمن ، والمال ، وغالبيتهم من الدولة العميقة الجديدة( القومية التغرانية ) ، كما أن الأمر مرتبط إلى مدى الإرتباط السياسي ما بين القومية الأمهرية ، والقومية الأورومية ، والقوى المختلفة في هاتين القوميتين .
إن الأيام القادمة حبلى للمفاجآت ، ولكن هذه المحددات الثلاثة هي التى سوف تشكل المستقبل وخيارات القوى السياسية فى هذه الدولة المحوية .