المطر وأحلام السلاطين

يحكي لنا الآديب الكبير أحمد إبراهيم الفقيه في كتابه (خمس خنافس تحاكم الشجرة) حيث يقول فيه: حكاية عربية قديمة يحتكر السلاطين وحدهم حق نشرها وطباعتها وإعادة كتابتها وإنتاجها يوما وراء يوم وعاما وراء عام،ولا يبيحون حق نقلها وإقتباسها الا لأتباعهم من رؤساء الشرطة وحكام الأقاليم)

كان يا ما كان،في قديم الزمان،سلطان من سلاطين بني قحطان،يحب الصمت ويكره الكلام ( حتي صار الناس يتكلمون بالإشارة ولا يستخدمون السنتهم الا في الهتافات) وجعل شعار دولته الأمن قبل الطعام، (ولذلك إختفت أرغفة الخبز من السوق بينما بلغت قوات الأمن رقما قياسيا حتي أصبح لكل مواطن شرطيان).وذات صباح ممطر استيقظ السلطان القحطاني من نومه منزعجا.كان قد سمع رعدا كثيرا،ورأي حلما مفزعا،فأرسل علي عجل يطلب من شعبه الحضور الي القصر والمثول أمامه في التو والحين.

جاء الشعب مهرولا هاتفا يعبر عن حبه العظيم للسلطان.

كان الجو عاصفا،والمطر غزيرا،وكان الشعب يقف أمام شرفة القصر يتقاطر ماء ويرتجف بردا ولكنه يشتعل حماسة ولهفة لرؤية السلطان.خرج السلطان الي الشرفة واشار بيده الكريمة الي الشعب ان يتوقف عن الهتاف.

وقف الشعب تحت المطر صامتا،خاشعا،ينظر الي السلطان الذي مضي يقول:

رأيت البارحة يا شعبي العزيز حلما.

إرتفعت هتافات الفرح والإغتباط،وتعالت الدعوات بالهناء والصحة وطول العمر للسلطان،فالشعب ينتظر دائما هذه الأحلام ويترقبها ويمضي في الحياة مسترشدا بها،لأن الأحلام التي يراها السلطان في الليل تصبح في صباح اليوم التالي قوانين ترسم للشعب الطريق الواجب إتباعه وتريه حقوقه وواجباته،وتحدد له ماذا يفعل وماذا يقول وماذا يشرب أو يلبس أو يأكل كما تحدد له مواعيد نومه وإستيقاظه وكيف يفكر وكيف يصادق وكيف يتزوج وماذا يسمي أطفاله،ولذلك فإن كل حلم جديد يحلمه السلطان هو مناسبة للفرح والإبتهاج وتأليف الهتافات الجديدة تمجيدا للسلطان وأحلامه.

ومرة أخري أشار السلطان بيده الكريمة الي الشعب أن يتوقف عن الهتاف قائلا:

رأيت يا شعبي العزيز في المنام أني أذبحك..

قالها السلطان حزينا متألما،تخنقه العبرات،قالها بصوت يلونه الأسي والشجن،فهو يحب شعبه حبا شديدا،أكثر من حبه لقطته السامية “ميشا”

وأكثر من حبه للكلب الذي تلقاه هدية من ملك الصقالبة وصار قريبا الي قلبه حتي خصص له ساعة في الإذاعة كل يوم لا يذاع فيها الا نباحه العذب الجميل،بل هو يحب شعبه اكثر من حبه لفطائر جراد البحر التي تأتيه مخلوطة بتوابل الهند لكي يعالج بها الضعف الطارئ الذي أصابه أخيرا،نعم،إنه يحب شعبه اكثر من هذه الأشياء،فهي كائنات وأطعمة يستطيع فراقها يوما أو يومين،أما شعبه الحبيب فهو لا يستطيع أن يفترق عنه أو يتخلي عن حبه وحكمه يوما واحدا.

إرتفعت هتافات الشعب الذي وقف تحت المطر يتلقي آخر أحلام السلطان.

نموت نموت ويحيا السلطان.

نحن فداء السلطان

إبتهج السلطان عندما رأي الشعب صابرا في مواجهة هذا الإمتحان العسير ممتثلا لما تقوله الآحلام،وأستأنف قائلا:

تعلم يا شعبي العزيز مدي محبتي لك،وحرصي علي حياتك ورغبتي في البقاء معك الي الأبد.ولكن للأحلام منطقها وحكمتها فهي لا تنطق عن الهوي ولا تقول الا ما تريده القوي الخفية المجهولة التي لا سبيل الي فهمها وما علي البشر الفانين الا تنفيذ أوامرها،وليس غريبا يا شعبي العزيز أن يتوافق هذا الحلم مع مجئ الأمطار التي تبشر بمواسم الخصب والخير والإزدهار،ومعني ذلك أنه لا يأس مع الموت وأن في موتك أيها الغالي والحبيب الي قلبي،حياة لهذه الأرض وإنقاذا لها من الجفاف والقحط.هبط السلطان القحطاني بعد ذلك من شرفته وركب محفته التي يحملها العبيد ومضي يقود شعبه الي منطقة الذبح تحت الجبل.وبعينين تمتلئان بالدموع أخرج السلطان سكينه وأمر عبيده الذين أمسكوا بالشعب والقوا به فوق الأرض أن يترقبوا بالشعب في لحظاته الآخيرة وأن يضعوه في مواجهة القبلة لكي يكون الذبح متفقا مع القواعد والأصول الشرعية.

رفع الشعب بصره الي السماء،وانتظر ان تحدث المعجزة،وترسل السماء كبشا يفتديه مكافأة له علي صبره وإمتثاله لما تقوله أحلام السلطان،

ولكن السماء أقفلت وجهها وأمتلأت بالسحب السوداء.لقد توقفت منذ زمن طويل عن إرسال الكباش الي الأرض،وإفتداء البشر الذين يسلمون رقابهم للسلاطين.

مد الشعب عنقه.

ومد السلطان سكينه ليذبح شعبه وهو يلهج بالدعاء ويذكر إسم الله بصوت يلونه الحزن والإنفعال الشديد.

في حين كان المطر ينهمر بغزارة مبشرا بمواسم الخصب والإزدهار.

منقول من مجموعة قصصية:”خمس خنافس تحاكم الشجرة”

Comments

هنا تستطيع ان تترك تعليقا عبر حسابك في الفيسبوك دون إدخال الاميل او البيانات الخاصة بك

عن Ibarhim Ali

شاهد أيضاً

” وسام طوفان الأقصى “

شرفٌ وفضلٌ وكرمٌ من أهله يغمرني فأعتز به وأفخر ، من فلسطين الحبيبة ، ومن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.