قرأته: ليديا جورج
قد تكون الإنتفاضة هي التي وضعت غزة علي خارطة العالم وجعلت إسمها مألوفا لدي الملايين في الغرب.ولكن مشاهد العنف التي رآها العالم عبر شاشات التلفزيون كانت تجري علي أرض غنية بالتاريخ.”الحياة علي مفترق طرق” محاولة من مؤلف الكتاب لسد ما يرآه نقصا في تناول تاريخ غزة الذي يعود الي أكثر من ثلاثة آلاف عام.يقول جيرالد بت أنه بسبب موقعها الجغرافي،كان علي جميع اللاعبين الأساسيين في تاريخ الشرق الأدني والأوسط أن يأخذوا مكانة غزة في الإعتبار في حينه قبل أن يسعوا لتحقيق طموحاتهم السياسية أو العسكرية أو التجارية.يصح ذلك القول في القرن العشرين كما في القرن الثاني قبل الميلاد.فغزة،بكل بساطة،إحدي أقدم المدن وتقع علي أحد مفترقات الطرق.وكما علي إمتداد التاريخ،يقول بت،وهو كاتب وصحافي عمل مراسلا لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في الشرق الأوسط في الثمانينات،كانت غزة مفترق طرق في ربيع وصيف 1994عندما أصبحت مع أريحا في الضفة الغربية،أول منطقة يسري عليها الحكم الذاتي وعاد اليها ياسر عرفات بعد 27 عاما في المنفي.
ويضيف بت:”أعتبر الزعيم الفلسطيني مجيئه الي غزة خطوة رمزية في إتجاه إقامة دولة فلسطينية.غزة عام 1994،كما في العقود والقرون السابقة،كانت مفترق طرق..هذه المرة للشعب الفلسطيني،وهو يسير من حياة في الشتات وتحت الإحتلال الإسرائيلي نحو إقامة دولته”
يلاحظ الكاتب أن غزة لم تكن مرة موضوع سيرة علي غرار جاراتها الأكثر شهرة مثل القدس والقاهرة.مع ذلك،هناك عشرات الإشارات لغزة في الكتابات القديمة والسجلات الحديثة،كما ورد ذكرها في العديد من مذكرات عسكريين وسياسيين تعاملوا مع هذا الجزء من العالم.بالإضافة الي ذلك،اكتشف علماء الآثار دلائل حسية علي ماضي غزة وسجلوا تجاربهم في مطبوعات متخصصة،ولدي تجميع هذه الإشارات،”يظهر جليا أ لغزة قصتها”.
المؤلف إذ يستعرض قصة غزة،الأرض المأهولة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام،عائدا الي عهد الفراعنة وجذور إسم “فلسطين”والعهود الإغريقية والرومانية والبريطانية،مارا بالفتوحات العربية والحروب الصليبية والحكم العثماني،وصولا الي الإنتداب البريطاني ونكبة 1948،ومن ثم هزيمة 1967 التي ادت الي الإحتلال الإسرائيلي للقطاع.ويعتبر ان هذه الرحلة عبر الماضي تكشف ان الإراضي التي قد تبدو بقعة صغير لا قيمة لها في جنوبي شرق المتوسط،لعبت دورا بارزا في تاريخ هذا الجزء من العالم.فحتي زمن قريب،كانت غزة مفترق طرق لجيوش ولتجار علي حد سواء،ممرا إستراتيجيا بين مصر في الجنوب وأراضي فلسطين وسورية وتركيا في الشمال.
في أحد الفصول،يروي الكاتب قصة الرابط بين غزوة وعائلة الرسول صلي الله عليه وسلم في مكة المكرمة والذي كان وراء تسمية “غزة هاشم”ففي القرن السادس الميلادي،كانت غزة مركزا تجاريا له روابط وثيقة بشبه الجزيزة العربية،وكان هاشم ابن عبد مناف،والد جد الرسول عليه الصلاة والسلام،احد الشخصيات المرموقة في هذا النشاط التجاري،واصبح هاشم،الذي عاش في حوالي منتصف القرن السادس،معروفا في غزة،حيث كان يمر في المدينة في طريقه الي مصر او سورية.خلال احدي رحلاته،توفي هاشم في غزة ودفن فيها،وذلك قبل نشأة الإسلام وانتشاره الي غزة في القرن السابع الميلادي.ويوجد قبر هاشم في مبني صغير في ساحة مسجد سيد هاشم الذي شيد وسمي علي إسمه عام 1855.
في نفس الفصل،يقول الكاتب ان احد المظاهر الملفتة كان انعدام المقاومة لإنتشار الإسلام في غزة،فقد اقبل اهل غزة علي اعتناق الرسلام بحماس وطالبوا،حسب المؤرخين المحليين،بتحويل كنيسة كبيرة قائمة في وسط المدينة الي مسجد سمي”مسجد عمر”نسبة الي عمر إبن الخطاب.وما زال مسجد عمر،او الجامع الكبير،يسيطر علي وسط مدينة غزة اليوم.
تناول الكاتب تاريخ غزة إبتداء من قيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي ادي الي لجوء مئتي الف مشرد فلسطيني الي القطاع ووضعه تحت الإدارة المصرية في العام التالي.
في تلك الحقبة،تذوق أهل غزة طعم الإحتلال الإسرائيلي للمرة الأولي-ولو لأشهر معدودة،وذلك خلال أزمة السويس،حيث بقي القطاع تحت السيطرة الإسرائيلية من نوفمبر (تشرين الثاني)1956 حتي مارس (آذار)1957.
ولكن تبقي الفترة الأصعب في تاريخ غزة الحديث هي التي تلت حرب 1967 واحتلال إسرائيل للقطاع.ويتوقف الكاتب عند أحداث ربيع 1971 عندما شن أرييل شارون،قائد القطاع الجنوبي في الجيش الإسرائيلي آنذاك،حملة شرسة للقضاء علي المقاومة،فأعتقلت قواته عشرات من المهنيين الناشطين وحوالي 12 الفا من أقارب الفدائيين المطلوبين،واقتحمت المنازل في المخيمات وطردت الآلآف من سكانها،قبل أن يتمكن شارون من كسر حركة المقاومة في منتصف ذلك العام.
يتحدث المؤلف عن بروز جيل “الشباب”الذي ولد في ظل الإحتلال وقاد “المعركة ضد آخر الإحتلالات”ولا يستغرب أن تكون الإنتفاضة قد إنطلقت عام 1987 من هناك.فأهل غزة،الذين حاربوا الكثير من المحتلين عبر التاريخ،كسروا حاجز الخوف ولم يعد لديهم ما يخسرونه.
*ورغم قلة الدلائل المادية في ماضي غزة،يقول المؤلف أن طبيعة المكان ما يكفي ليتشرب المرء بعضا من “روح تاريخ غزة..تلك الروح التي جعلت أهلها علي الدوام شوكة”في خاصرة المحتلين الأجانب،والتي في منتصف التسعينات لن تقبل بأقل من تقرير المصير الكامل والإستقلال”.ولعل روح التاريخ تلك هي أثمن ما في تراث غزة.”
وآخيرا أختم هذا العرض الجميل الذي قدمته الكاتبة للقارئ العربي بمقولة مكسيم غوركي الذي قال:إن هؤلاء الأمريكان لديهم كل شيء يتمناه الإنسان،إلا شيئا واحدا،وهو الإحساس بالإنسانية !لذلك حين دخل الأديب الإيرلندي أوسكار وايلد ميناء نيويورك، واستوقفه شرطي الجمارك سأله: هل تحمل معك ممنوعات؟!
قال: نعم،أحمل معي إنسانيتي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر،مجلة المجلة
العدد-845- 1996