بقلم / بلال الطيب
الاستبداد، كما قيل، حربٌ مؤجلة إن استعرت لن تبقي ولن تذر. وما يمر به اليمن اليوم من مخاطر لا حد لها ولا حصر؛ ما هو إلا نتيجة حتمية لتلك الحرب. فشل «المؤدلجون، والمتسلطون، والانتهازيون» في حكم هذا البلد؛ لأنهم جميعاً تجاهلوا طبائعه وخصائصه التاريخية.
قامت ثورة «26 سبتمبر 1962» من أجل إقامة نظام جمهوري عادل، وإزالة الفوارق بين الطبقات، إلا أنها – وللأسف الشديد – فَشلت في تحقيق هدفها الأول، ظلت مُخلفات الإمامة فارضةً حضورها النتن، دون أن تُفلح الأفكار التقدمية في كبح جماحها، أو حتى تهذيبها.
«سيادة شعبية، وحدة وطنية، عدالة اجتماعية»، كان هذا شعار الأحرار الأوائل، ولم نصل إلى ما وصلنا إليه؛ إلا حينما حدنا عنه، وصار وطننا – وبرضانا – مسلوب الإرادة، مجهول المصير، يتحكم به مجموعة من «المُتسلطين، والانتهازين، واللصوص»، تقاسموه كغنيمة حرب، وجعلوه عرضة للتآمر الخارجي، ومحطة للارتزاق، وساحة صراع كبيرة لـ «أيدولوجيات» وافدة، زادت الطين بلة، وخلقت عصبيات جديدة، جزأت المجزأ، ومزقت الممزق، وزادتنا فرقةً وشتاتا.
ولأننا شعب مُتعصب حتى النخاع، وعاطفي حد الثمالة؛ صرنا نتلذذ بانتكاساتنا المتتالية، وننتظر أي مصيبة؛ لنبكيها بحرقة، ونتهم هذا، ونُخون هذا، ونقطع الأمل من جذوره، وكأن القيامة قامت، ولا طريق معبد أمامنا للاستقرار، وأجزم أنَّ غالبية نخبنا كانوا يتوقعون ما حدث، وكانوا يستعدون لمواجهته بسيل من الشتائم، والتخوينات، وندب الحظ، لا أحد من هؤلاء تحدث عن العبر والدروس المُستفادة من تلك الانتكاسات، أو عن الأسباب الحقيقية التي أدت لتكرارها، ولا بادر بوضع الحلول الناجعة لتلافيها مُستقبلاً.
وفي خضم هذا الشتات الفظيع الذي نعيشه، وجب التذكير أنَّ الانتصار في المعارك المصيرية لا يتحقق إلا بقضية وطنية جامعة نؤمن بها، ونقدم لأجلها التضحيات، وقيادة قوية غير مرتهنة، ذات ماض مُشرف، ولم تتلوث بالخيانة والفساد، وقبل هذا وذاك التحرر من العصبية المقيتة، التي إن لم نكبح جماحها اليوم، ستصيبنا غداً في مقتل.
العصبية عدونا الحقيقي، والمُتهم الرئيس لما وصلنا إليه. جعلت كثيرين منا متسلطين، ومتزمتين، وجامدين في تفكيرهم، متمركزين حول ذواتهم، غير مُتقبلين للحوار مع الآخر، الحوار الذي غالباً ما يأتي بالحلول، ولن نتحرر منها إلا بالتعايش السلمي، وبالتمسك بمبادئ الديمقراطية وقيمها، وبحقوق الإنسان التي تضمنتها المعاهدات والمواثيق الدولية، والاعتراف بالخطأ، وتقبل النقد، ومقاومة الإشاعات المُضللة بهدوء وعقلانية.
يقول القائل: العصبية لا تنتهي، هذا صحيح، ولكنها تضعف، وضعفها مرهون بالخضوع والانقياد للدولة، وتغليب مصلحة الوطن العليا على المصالح الذاتية الضيقة، والتخلص من التركة التاريخية المُثقلة بالصراعات والحروب، والمحبورة بالدم والدموع، وهذا جل ما نرجوه، ونسعى إليه، والدول العظيمة – مثلاً – تقودها عصبية عامة، أما الدول الصغيرة – كبلدنا – فتقودها عصبية «القبيلة، والحزب، والنسب».