الإنسان أم بقاء الدولة؟

المتتبع منا الخطابات السياسية لزعماء الدول في عالمنا النامي يلحظ تكرار ما اصطلح عليه بقاء الدولة، وما يكاد يخلو خطاب منها كأن الدولة هي من أوجد الإنسان وليس الإنسان هو من أوجدها أو هو ركيزة قيامها وبقائها.

يحقق لنا أن نتساءل إذاً

مالمقصود ببقاء الدولة أو الحفاظ عليها التي ترد في خطابات زعماءنا؟

وهل يمكن الحديث عن الدولة خارج إنسانية الإنسان؟

الإجابة على هذين التساؤلين سأتركهما للقارئ –ولكن- سأتطرق من باب تبسيط الإجابة لدولة الإنسان وهي دولة تُعنى بالإنسان وقيمه ومبادئه.

ظلت الفضيلة هي الفكرة الأساسية والمحورية في الفكر السياسي القديم منه والحديث في دولة الإنسان، وبالتالي القائد السياسي هو من يُعلي الشأن الإنسان ماديا ومعنويا. فتركّز هذه الدولة على الأخلاق والفضيلة –أخلاق الحاكم والمحكوم- حتى لا تصبح وتتحول الدولة لقوة القهر والإكراه.

ماهي الفضيلة؟

 هي مزية أخلاقية وتعني التفوق الأخلاقي.

 رأى سقراط أن الفضيلة هي المعرفة، ويقصد بالمعرفة معرفة الإنسان لذاته.

بعيدا عن التنظير والتعقيد فإن السياسة هي مشروع أخلاقيّ يسعى إلى تكريس المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية منها المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والتكافل الاجتماعي؛ الغاية الأسمى من الدولة هي تحقيق السعادة للبشر (أرسطو) وبهذا المعنى يكون العمل السياسي يهدف إلى سعادة الإنسان في إطار اجتماعي-سياسي تقيّده العلاقات المحكومة بمجموعة الأسس والمبادئ الإنسانية.

قد يتساءل بعضنا أو يستغرب “كيف تشكل الأخلاق رادعا للسياسي وتحول دون الفردية والبيروقراطية السلطوية (الفئوية السلطوية) والسياسة أصلا مبنية على قاعدة مكيافيلية وهي الغاية تبرر الوسيلة؟

الإجابة على هذا التساؤل يثير مفهومان في غاية الأهمية، الأول مفهوم الاستبداد والاستبداد ما هو إلا نتيجة حتمية يترتب على اختفاء الفضيلة وغياب البعد الأخلاقي في ممارسة السلطة. إدّعى مكيافللي في كتاب الأمير نسبية الأخلاق أي عدم إلتزام الأمير (الحاكم) بها ما لم تخدم أهدافه وغاياته. لماذا؟

مكيافللي في كتاب الأمير يقدم نصائح للأمير وكان يرى بأن إيطاليا بحاجة لرجل مستبد وليست بحاجة إلى الديمقراطية وأن الفوضى العارمة التي تعيشها يتطلب قائدا دكتاتوريا يمتلك كل مقومات السلطة وأن يكون قويا يهابه الجميع. قصدت مما أوردته من كتاب الأمير التوضيح بأن تغييب الأخلاق ونسبيته عند مكيافلي كانت بهدف خلق سلطة دكتاتورية. واعتبر أن الأخلاق هي التي تحول دون تسلط القائد والأمير وبالتالي القضاء عليها هو الحل الأنسب.

يقول عبدالرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”: إن الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها.

يمكننا القول بأن الاستبداد يستهدف الأخلاق إما بتغييبها كليا أو عن طريق تزييف الوعي وتجديد الأخلاق بما يتناسب مع نسق السلطة الحاكمة، وخلق الأساطير السياسية حول القائد المنقذ واضفاء الشرعية المطلق عليه باسم “رجل المرحلة”.

ثانيا: المصلحة الوطنية ينبغي أن نفرق بين السياسة الداخلية وهي الشأن الداخلي –العلاقة بين الحاكم والمحكوم- وبين السياسة الخارجية للدولة والتي تحكم ممارساتها مع نظرائها أي العلاقات الدولية. تتحكم المصالح الوطنية على العلاقات بين الدول حيث كل دولة ينبغي أن تسعى وتحرص على تحقيق أقصى المكاسب والمنافع لمواطنيها، فهنا يحدث تضارب وتعارض بين مصالح الدول بسبب سعي كل طرف لمصلحته الوطنية وبالتالي يتضاءل أو يختفي دور الأخلاق في التحكم في العلاقات مما قد ينتج عنه الصراع المسلح.

نلحظ مما سبق أن غياب الأخلاق في الحالة الأولى أدى إلى الاستبداد وإلى حكم الفرد المطلق بينما في الحالة الثانية يؤدي إلى الصراع المسلح والقتل والدمار، نخلص إذاً أن الأخلاق تشكّل رادعا للسياسي وتحول دون تفرده بالرأي والسلطة واستعباد البشرية، فالعلاقة بين الأخلاق والسياسة حتمية واختلال التوازن بينهما يرتّب نتائج مأساوية  على البشرية سواء بيد الدكتاتوريات أو تحت وطأة الصراعات الدولية.

وأخيرا، الدولة من غير الإنسان مجرد أرض وبقاء الدولة مرتبط ببقاء الإنسان لأن الشعب يمثل الركن الأساسي في أركان الدولة بجانب الأرض والسلطة السياسية.. ينبغي أن يكون الاهتمام بالإنسان لتبقى الدولة وحتى تكون هناك السلطة السياسية وتمارس سلطتها على إنسان فاعل وليس مغيّب. بقاء الدولة يعني خلق مواطن يتمتع بالتفكير الحر، مواطن يستطيع أن يفكر بعيدا عن معدته. على الدولة لتبقى يجب تهتم بالمواطن أولا وثانيا وثالثا. وأنها تكون -الدولة- قادرة على خلق مواطن يفلت من أسر التفكير المقيد بالحاجة.

وأترك للقارئ -بعد هذا السرد-  البسيط الإجابة على السؤالين:

مالمقصود ببقاء الدولة أو التي ترد في خطابات زعماءنا؟

وهل يمكن الحديث عن الدولة خارج إنسانية الإنسان؟

HMK. Fantastic kamil

١ - . داود روفائيل خشبة، دعوة للفسفة. ص51

 ٢ - نيقولا مكيافللي، كتاب الأمير.

Comments

هنا تستطيع ان تترك تعليقا عبر حسابك في الفيسبوك دون إدخال الاميل او البيانات الخاصة بك

عن Shefa Alafari

شاهد أيضاً

تفوقت إثيوبيا على تنزانيا وأوغندا كوجهة استثمارية رئيسية لكينيا في الخارج.. سفاريكوم إثيوبيا تعين السفير الإثيوبي السابق في فرنسا مدير للشون الخارحية

  عينت سفاريكوم إثيوبيا السفير الإثيوبي السابق في فرنسا ، إينوك تفران ، مسؤولاً للشؤون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.