الفساد ينتج البيئة الحاضنة له .
قراءة للواقع من خلال العبرة القرآنية
__ _ _ ___ _ _ _ _ _ _ _ _ _
قال تعالى على لسان نبي الله شعيب عليه السلام : إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت ، وإليه أنيب .
لقد أرسل الله هذا النبي الكريم إلى قومه ، وقد كان الفساد في داخل هذه الأمة منتشرا بشكل مخيف ، بل وممنهجا ، ولم يكن أحد من الناس يلاحظ قوة ومدي انتشار الفساد في المجتمع ، والسبب هو أن الجميع يعيش في الفساد الممنهج ، ومن هنا كان العجب من دعوة شعيب في الاصلاح الإقتصادي ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) .
إن النبي الكريم عليه السلام كان مختلفا ، وينطلق من رؤية مختلفة ، ولكن القوم بسبب ما عاشوا طويلا في الفساد لا يَرَوْن الفساد كما هو ، بل يَرَوْن في التغيير المشكلة ، ويخافون من الإصلاح السياسي والمالي ، وهما دوما مرتبطان ، فلا يمكن للشعوب إصلاحا اقتصاديا مع الركود السياسي ، كما لا يمكن كذلك إصلاحا سياسيا ما لم يصاحب هذه الإصلاحات السياسية مشاريع اقتصادية من شأنها إخراج الناس من التنمية الوهمية ( التنمية الخرافية ) .
الغريب في الأمر أن القوم حينما فشلوا في مواجهة النبي الكريم عليه السلام في مشروعه المالي والإقتصادي ، انقلبوا علي تشويه شخصيته ، والهجوم عليه ، ذلك لأن الحجة لا تسعف كثيرا علي الملأ ، ولهذا فهم يستخدمون القوة في الغالب ، واستخدام القوة في مواجهة قوة الكلمة ليس حلا جذريا للمشاكل ، وإنما هو نقل المشكلات إلي الأجيال القادمة ، بل وإلي الدمار ، ذلك لأن الفساد لا ينتج إلا فسادا .
وضع النبي الكريم مشروعه المالي المنبثق من آلام المرحلة ، ومشكلات البيئة فقال لهم بوضوح : فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كُنتُم مؤمنين . ولا تقعدوها بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن بها وتبغونها عوجا ، واذكروا إذ كُنتُم قليلا فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين .
في هذا المقطع الكريم نجد أربعة أمور تؤكد لنا الفساد الممنهج ، والذي لا ينتج إلا فسادا ، وهو المعني الذي يجب أن يستفيد منه المسلمون في قراءتهم للقصص القرآني ، ومن المعروف كما ذكر الشيخ الغزالي في كتابه الهام ( المحاور الخمسة للقرآن الكريم ) أن القصص من أهم المحاور التي تدور عليها أحداث الكتاب العزيز ، والهدف من طرح هذه القصص في الوحي الأخير هو الإستفادة من الأحداث التاريخية بشكل علمي وعملي معا .
١- تناول المقطع أصول الفساد في هذه الأمة ، فكان ماليا بكل ما تعني الكلمة من معني ، وكان أصحاب الأموال والشركات يأخذون من الناس أكثر مما يستحقون ، ويتخففون بشكل كبير عن أداء ما عليهم ، وهذا هو الفساد الذي جاء لأجل تصويبه نبي الله شعيب عليه السلام ، إعادة التوازن في الحياة المالية ( فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) .
٢- إن الفساد المالي عقيدة فكرية قبل أن يكون سلوكا سياسيا ، وهذا ما لا يلاحظه كثير من فلاسفة المال ، ولكن جمعا من علماء المال لاحظوا مؤخرا بأن وراء كل فساد مالي انحراف في الرؤية ، وإلي هذا أشار المقطع بوضوح ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) .
٣- لا إصلاح للحياة المالية إلا بوجود نضال سياسي في الإصلاح ، وعملية الإصلاح مركبة ومعقدة ، فلا إصلاح بدون رؤية ، ولا رؤية ناجحة بدون نخبة تؤمن بهذه النظرية ، ولهذا يعرف المفسدون أن العقبة أمام الفساد هو وجود ظاهرة الجماعة التصحيحية في المجتمع ، ولهذا فهم يحاربون الحرية من خلال طرح قانون الطوارئ ( ولا تقعدوها بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن بها وتبغونها عوجا ) .
٤- إن الفساد المالي قد يكون في بعض الأحيان منتجا لتراكم الثروة في داخل المجتمع ، ويحسب بعض الناس أن هذا النوع من التراكم المالي بيد فئة قليلة من الناس تنمية ، بيد أن هذه الثروة لن تكون موزعة بشكل عادل ، ولهذا ليس من الصواب في عالم التنمية المتوازنة جعل الصين دولة متقدمة ، مع كونها الدولة الثانية في الانتاج بعد الولايات المتحدة ، والسبب هو أن الثروة تتراكم عند فئة معينة ، بينما الفقر والموت والأمراض متفشية بشكل رهيب في البلد ، ونحن نعرف أن فنلندا التي ليست من الدول الثمانية في الصناعة ، تتبوأ المكانة الأولي في عالم التنمية المتوازنة ، لأنها وزعت الثروة بشكل قريب إلي الرؤية القرآنية ، وذكر العلامة ابن خلدون بأن الدول في أواخر عهودها وانحطاطها تهتم بالبناء ، أي بناء الحجر بدل البشر ، ومن هنا يكون هذا وراء سر خرابها ( واذكروا إذ كُنتُم قليلا فكثركم ) .
إن المقطع القرآني عميق في طرحه ، قوي في حجته ، يحمل في داخله معنى تركيبيا عميقا ، ولا ينتمي إلي عالم التبسيط بحال من الأحوال ، ولهذا نجد الكثير من المسلمين يقرؤون الكتاب العزيز بعيون الموتي كما ذكر جارودي ، أو بمنهجية تجزيئية بعيدة عن القراءة التوحيدية كما يذكر الترابي في التفسير التوحيدي ، ولأجل هذا وجدنا في نهاية المقطع لفتة عجيبة ( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) .
المواجهة العنترية والجبانة في الوقت ذاته .
———————————–
إن المصلحين في التاريخ كله ، بدءا من الأنبياء والرسل ، ومرورا بالدعاة والعلماء في التاريخ الإسلامي ، وانتهاءا بالمفكرين العالميين ، والمصلحين الإجتماعيين في كل محطات التاريخ يملكون قوة الحجة والكلمة ، ولهذا فهم يطرحون المشروع مع بيناته ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ، ولكن المفسدين لا يملكون الحجة ، فلا حجة للفساد السياسي ، والمالي ، ولكن يملكون قانون القوة .
يقول تعالي : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ، قال أو لو كنّا كارهين .
وقال تعالي : وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون .
لدينا هنا آيتان من الكتاب العزيز ، وتوضحان معني لطيفا ، وهو كيف تكون مواجهة أهل الفساد بأهل الإصلاح ، وهي عبرة تبقي في مدار القرون كحجة تاريخية لها قوة الثبات ، وليس لأهل القراءة السطحية للتاريخ فهمها بسهولة ، وقد يتم فهمها ولكن بعد فوات الأوان ( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) .
إن الفساد الممنهج لا يستطيع مواجهة الكلمة القوية في حجتها ، والرصينة في طرحها ، والعلمية في نقاشها ، والموضوعية في تناولها للأشياء ، ولهذا يتحولون من المنهج إلي الأشخاص ، ويستخدمون قوة السلطة القاهرة بدل العقل ، فماذا توحي الآيتان من عبرة وعظة ؟
١- أبدع القرآن لغة جديدة في تفسير التاريخ ، ومن هذه اللغة الجديدة مصطلح ( الملأ ) ، والملأ في الإصطلاح القرآني يعني بالجماعة التي تملك القرار السياسي ، وتستحوذ الثروة كذلك ، وهم دوما في لغة القرآن ( مستكبرون ) ، ولهذا قال تعالي : ( وقال الملأ الذين استكبروا من قومه ) .
٢- القرار الذي توصل إليه الملأ بعد دراسة فاحصة للمشروع الشعيبي ( الاصلاح المالي والاقتصادي ) ، كان منطلقا بمواجهة الشخص ، لا المنهج ، وهذا النوع من المواجهة لا يحمل مشروعا ، وإنما يحمل الخوف من المواجهة ، وهو ما يسمي اليوم بالمواجهة الأمنية للأفكار ( المواجهة العنترية الجبانة ) .
استخدم هذا الأسلوب البالي كل الطواغيت من لدن نمرود وفرعون في زمن الخليل إبراهيم والكليم موسي عليهما السلام ، واستخدمه كذلك كل الفراعين والنمارد من بعد ( لنخرجنك من أرضنا ، أو لتعودن في ملتنا ) فهذا هو الخيار بالنسبة لهم ، إما أن تكون معنا ، ولَك شيء من الحياة ، وإما أن تكون ضدنا ، وليس لك شيء من الحقوق في أرضنا ، ويجب أن تلاحظ أن كلمة ( أرضنا ) تفيد بأن الدولة وجميع ممتلكاتها هي لهم فقط دون غيرهم .
٣- في آخر الآية الأولي لفتة عجيبة ( قال أولو كنّا كارهين ) ، وهذه تفيد كم هي الرؤية واضحة في ذهنية رجال الإصلاح ، فهم لا يملكون قانون القوة ، ولكنهم يملكون قوة القانون ، وحجة الكلمة ، ولهذا هم يخيفون رجال الفساد .
٤- إن الملأ يستخدمون وسائل الإعلام ، ويستعينون بضعفاء النفوس والعقول ، ويهددون الناس بأن أمن الوطن مرتبط بعدم اتباع رجال الإصلاح ( وقال الملأ الذين كفروا لئن اتبعتم شعيبا ، إنكم إذا لخاسرون ) ، فهذه لغة تهديدية استخدمها الملأ قديما وحديثا ، ولكن النتيجة كانت دوما كارثية ، وما يجري اليوم في يد السيسي ليس عنا ببعيد .
ماذا بعد ؟
——–
لقد فزعت حين رأيت الفساد الممنهج في الصومال ، ورأيت المال السياسي المنتشر في الملأ الفاسد ، بل ورأيت الفساد السياسي وقد تحول إلي عملية مقبولة من الجميع ، فالكل يتهافت عليه ، المتدين والعلماني سواء بسواء ، فقد أفسدت السلطة المطلقة ( السلطة بنكهتها الصومالية ) العرف السياسي .
وفزعت كذلك حين لاحظت التنمية ( الوهمية ) الموصوفة عند البعض بالمشاريع العملاقة في جيبوتي ، وقد تدخل في عالم جديد من الإستحمار ، فجيلة يهرب من الاستحمار الفرنجي إلي الإستحمار الصيني ، وهو أخطر بكثير من الإستعمار الغربي ، ويتم كل ذلك بغياب المشروع السياسي ، ووجود السلطة المطلقة ، وفقهاء الحضارة يؤكدون بأن السلطة المطلقة فساد مطلق .
لقد أقام مبارك قبل سقوطه عشرات من المشاريع العملاقة ، ولكنها انتهت بسقوطه ، فالمشاريع النهضوية تنحت من عقول الكبار ، ولكن هذه المشاريع ما هي إلا شراكة ما بين شركات صينية ، وشركات تابعة لجيلة فقط ماعدا مشروع القطار الأثيوبي ، وهو مشروع خالص للدولة الإثيوبية تبناها السيد ملس زيناوي في مشروعه ( أثيوبيا القائدة ) .
إن الفساد السياسي في الصومال تقودها مجموعة فاسدة ، لا تنتمي إلي العصر ، وليس لها انتماء حقيقيا الي الدين كمشروع ، والأغرب من ذلك أن هؤلاء تحولوا من رعاة للمصالح الصومالية إلي رعاة للمصالح القومية للدول الإقليمية ، فهناك من يمثل في الصومال المشروع الاثيوبي ، وهناك من يناضل لتسويق المشروع الإماراتي ، أو التركي ، أو السوداني والجيبوتي ، فكل هذه الدول لها سماسرة في التركيبة السياسية الداخلية ، فقد صنع المال الفاسد عالمه الفاسد .
إن الفساد المالي في جيبوتي أوجد بيئة طاردة للنخب الفكرية والعلمية ، فهناك اليوم المئات من العقول في الولايات المتحدة ، وفي كندا ، وفي سائر الدول الغربية ، كل هؤلاء يتهافتون علي الدول الغربية يهربون من جحيم الفقر والمرض ، والأغرب من كل ذلك أن الإعلام يتحدث عن نهضة حقيقية ، ولدينا من يصدق هذه الثرثرة الإعلامية ، والسبب أن الفقر صار عملية ممنهجة ، وأن الثروة التي بدأت تتكدس في البلد تحولت إلي جيوب الأحباب ، فهناك مصنع لإنتاج الألبان في جيبوتي وهي تابعة لأحد أبناء جيلة ، كما أن مصنعا أخر بدأ العمل في إنتاج المعكرونة الطويلة والقصيرة ، وهو تابع لأحد ابناءه كذلك ، وهناك شركة استيراد الأدوية وهي تابعة لإحدي بناته ، كما أن شركة الطيران تابعة لزوج إحدي بناته .
إن الفساد المالي تحول إلي فساد ممنهج ، لدينا وزيران هامان في التشكيلة الحالية ، أحدهما يمثل وزيرا سوبرمانا ، والآخر يمثل وزيرا ثقيلا ، وهما زوجان لابنتي العائلة الحاكمة ، فهو يصنع البيئة التي تنتج رجال الولاء ، وليس رجال الكفاءة ، وما أمر الدكتور عطاوي والاستاذ محمد طاهر إلا من هذا الباب ( أخرجوهم من قريتنا ) ، والسبب ( إنهم أناس يتطهرون ) ، فقد تعرض الأول لتشويه الشخصية من النظام سابقا ، بينما تعرض الأخر تهديدا وتصفية ، وهما من خيرة أبناء البلد فهما وتعليما وعملا .
في الأعوام الثلاثة القادمة ، سوف نرى كوارث سياسية خطيرة في هذين البلدين ( الصومال – وجيبوتي ) ، وسوف يبدأ كل واحد منهما رحلته نحو المجهول ، ذلك لأن الفساد تحول فيهما إلي مشروع ، والفساد لا ينتج إلا فسادا .
الاستاذ عبدالرحمن بشير