الشيخ عبد الرحمن بشير, يواصل كلمته الطيبة لعلاج المجتمع من الفساد

الفساد ينتج البيئة الحاضنة له .
قراءة للواقع من خلال العبرة القرآنية

__ _ _ ___ _ _ _ _ _ _ _ _ _

 

قال تعالى على لسان نبي الله شعيب عليه السلام : إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت ، وإليه أنيب .
لقد أرسل الله هذا النبي الكريم إلى قومه ، وقد كان الفساد في داخل هذه الأمة منتشرا بشكل مخيف ، بل وممنهجا ، ولم يكن أحد من الناس يلاحظ قوة ومدي انتشار الفساد في المجتمع ، والسبب هو أن الجميع يعيش في الفساد الممنهج ، ومن هنا كان العجب من دعوة شعيب في الاصلاح الإقتصادي ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) .
إن النبي الكريم عليه السلام كان مختلفا ، وينطلق من رؤية مختلفة ، ولكن القوم بسبب ما عاشوا طويلا في الفساد لا يَرَوْن الفساد كما هو ، بل يَرَوْن في التغيير المشكلة ، ويخافون من الإصلاح السياسي والمالي ، وهما دوما مرتبطان ، فلا يمكن للشعوب إصلاحا اقتصاديا مع الركود السياسي ، كما لا يمكن كذلك إصلاحا سياسيا ما لم يصاحب هذه الإصلاحات السياسية مشاريع اقتصادية من شأنها إخراج الناس من التنمية الوهمية ( التنمية الخرافية ) .
الغريب في الأمر أن القوم حينما فشلوا في مواجهة النبي الكريم عليه السلام في مشروعه المالي والإقتصادي ، انقلبوا علي تشويه شخصيته ، والهجوم عليه ، ذلك لأن الحجة لا تسعف كثيرا علي الملأ ، ولهذا فهم يستخدمون القوة في الغالب ، واستخدام القوة في مواجهة قوة الكلمة ليس حلا جذريا للمشاكل ، وإنما هو نقل المشكلات إلي الأجيال القادمة ، بل وإلي الدمار ، ذلك لأن الفساد لا ينتج إلا فسادا .
وضع النبي الكريم مشروعه المالي المنبثق من آلام المرحلة ، ومشكلات البيئة فقال لهم بوضوح : فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كُنتُم مؤمنين . ولا تقعدوها بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن بها وتبغونها عوجا ، واذكروا إذ كُنتُم قليلا فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين .
في هذا المقطع الكريم نجد أربعة أمور تؤكد لنا الفساد الممنهج ، والذي لا ينتج إلا فسادا ، وهو المعني الذي يجب أن يستفيد منه المسلمون في قراءتهم للقصص القرآني ، ومن المعروف كما ذكر الشيخ الغزالي في كتابه الهام ( المحاور الخمسة للقرآن الكريم ) أن القصص من أهم المحاور التي تدور عليها أحداث الكتاب العزيز ، والهدف من طرح هذه القصص في الوحي الأخير هو الإستفادة من الأحداث التاريخية بشكل علمي وعملي معا .
١- تناول المقطع أصول الفساد في هذه الأمة ، فكان ماليا بكل ما تعني الكلمة من معني ، وكان أصحاب الأموال والشركات يأخذون من الناس أكثر مما يستحقون ، ويتخففون بشكل كبير عن أداء ما عليهم ، وهذا هو الفساد الذي جاء لأجل تصويبه نبي الله شعيب عليه السلام ، إعادة التوازن في الحياة المالية ( فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) .
٢- إن الفساد المالي عقيدة فكرية قبل أن يكون سلوكا سياسيا ، وهذا ما لا يلاحظه كثير من فلاسفة المال ، ولكن جمعا من علماء المال لاحظوا مؤخرا بأن وراء كل فساد مالي انحراف في الرؤية ، وإلي هذا أشار المقطع بوضوح ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) .
٣- لا إصلاح للحياة المالية إلا بوجود نضال سياسي في الإصلاح ، وعملية الإصلاح مركبة ومعقدة ، فلا إصلاح بدون رؤية ، ولا رؤية ناجحة بدون نخبة تؤمن بهذه النظرية ، ولهذا يعرف المفسدون أن العقبة أمام الفساد هو وجود ظاهرة الجماعة التصحيحية في المجتمع ، ولهذا فهم يحاربون الحرية من خلال طرح قانون الطوارئ ( ولا تقعدوها بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن بها وتبغونها عوجا ) .
٤- إن الفساد المالي قد يكون في بعض الأحيان منتجا لتراكم الثروة في داخل المجتمع ، ويحسب بعض الناس أن هذا النوع من التراكم المالي بيد فئة قليلة من الناس تنمية ، بيد أن هذه الثروة لن تكون موزعة بشكل عادل ، ولهذا ليس من الصواب في عالم التنمية المتوازنة جعل الصين دولة متقدمة ، مع كونها الدولة الثانية في الانتاج بعد الولايات المتحدة ، والسبب هو أن الثروة تتراكم عند فئة معينة ، بينما الفقر والموت والأمراض متفشية بشكل رهيب في البلد ، ونحن نعرف أن فنلندا التي ليست من الدول الثمانية في الصناعة ، تتبوأ المكانة الأولي في عالم التنمية المتوازنة ، لأنها وزعت الثروة بشكل قريب إلي الرؤية القرآنية ، وذكر العلامة ابن خلدون بأن الدول في أواخر عهودها وانحطاطها تهتم بالبناء ، أي بناء الحجر بدل البشر ، ومن هنا يكون هذا وراء سر خرابها ( واذكروا إذ كُنتُم قليلا فكثركم ) .
إن المقطع القرآني عميق في طرحه ، قوي في حجته ، يحمل في داخله معنى تركيبيا عميقا ، ولا ينتمي إلي عالم التبسيط بحال من الأحوال ، ولهذا نجد الكثير من المسلمين يقرؤون الكتاب العزيز بعيون الموتي كما ذكر جارودي ، أو بمنهجية تجزيئية بعيدة عن القراءة التوحيدية كما يذكر الترابي في التفسير التوحيدي ، ولأجل هذا وجدنا في نهاية المقطع لفتة عجيبة ( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) .
المواجهة العنترية والجبانة في الوقت ذاته .
———————————–
إن المصلحين في التاريخ كله ، بدءا من الأنبياء والرسل ، ومرورا بالدعاة والعلماء في التاريخ الإسلامي ، وانتهاءا بالمفكرين العالميين ، والمصلحين الإجتماعيين في كل محطات التاريخ يملكون قوة الحجة والكلمة ، ولهذا فهم يطرحون المشروع مع بيناته ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ، ولكن المفسدين لا يملكون الحجة ، فلا حجة للفساد السياسي ، والمالي ، ولكن يملكون قانون القوة .
يقول تعالي : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ، قال أو لو كنّا كارهين .
وقال تعالي : وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون .
لدينا هنا آيتان من الكتاب العزيز ، وتوضحان معني لطيفا ، وهو كيف تكون مواجهة أهل الفساد بأهل الإصلاح ، وهي عبرة تبقي في مدار القرون كحجة تاريخية لها قوة الثبات ، وليس لأهل القراءة السطحية للتاريخ فهمها بسهولة ، وقد يتم فهمها ولكن بعد فوات الأوان ( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) .
إن الفساد الممنهج لا يستطيع مواجهة الكلمة القوية في حجتها ، والرصينة في طرحها ، والعلمية في نقاشها ، والموضوعية في تناولها للأشياء ، ولهذا يتحولون من المنهج إلي الأشخاص ، ويستخدمون قوة السلطة القاهرة بدل العقل ، فماذا توحي الآيتان من عبرة وعظة ؟
١- أبدع القرآن لغة جديدة في تفسير التاريخ ، ومن هذه اللغة الجديدة مصطلح ( الملأ ) ، والملأ في الإصطلاح القرآني يعني بالجماعة التي تملك القرار السياسي ، وتستحوذ الثروة كذلك ، وهم دوما في لغة القرآن ( مستكبرون ) ، ولهذا قال تعالي : ( وقال الملأ الذين استكبروا من قومه ) .
٢- القرار الذي توصل إليه الملأ بعد دراسة فاحصة للمشروع الشعيبي ( الاصلاح المالي والاقتصادي ) ، كان منطلقا بمواجهة الشخص ، لا المنهج ، وهذا النوع من المواجهة لا يحمل مشروعا ، وإنما يحمل الخوف من المواجهة ، وهو ما يسمي اليوم بالمواجهة الأمنية للأفكار ( المواجهة العنترية الجبانة ) .
استخدم هذا الأسلوب البالي كل الطواغيت من لدن نمرود وفرعون في زمن الخليل إبراهيم والكليم موسي عليهما السلام ، واستخدمه كذلك كل الفراعين والنمارد من بعد ( لنخرجنك من أرضنا ، أو لتعودن في ملتنا ) فهذا هو الخيار بالنسبة لهم ، إما أن تكون معنا ، ولَك شيء من الحياة ، وإما أن تكون ضدنا ، وليس لك شيء من الحقوق في أرضنا ، ويجب أن تلاحظ أن كلمة ( أرضنا ) تفيد بأن الدولة وجميع ممتلكاتها هي لهم فقط دون غيرهم .
٣- في آخر الآية الأولي لفتة عجيبة ( قال أولو كنّا كارهين ) ، وهذه تفيد كم هي الرؤية واضحة في ذهنية رجال الإصلاح ، فهم لا يملكون قانون القوة ، ولكنهم يملكون قوة القانون ، وحجة الكلمة ، ولهذا هم يخيفون رجال الفساد .
٤- إن الملأ يستخدمون وسائل الإعلام ، ويستعينون بضعفاء النفوس والعقول ، ويهددون الناس بأن أمن الوطن مرتبط بعدم اتباع رجال الإصلاح ( وقال الملأ الذين كفروا لئن اتبعتم شعيبا ، إنكم إذا لخاسرون ) ، فهذه لغة تهديدية استخدمها الملأ قديما وحديثا ، ولكن النتيجة كانت دوما كارثية ، وما يجري اليوم في يد السيسي ليس عنا ببعيد .
ماذا بعد ؟
——–
لقد فزعت حين رأيت الفساد الممنهج في الصومال ، ورأيت المال السياسي المنتشر في الملأ الفاسد ، بل ورأيت الفساد السياسي وقد تحول إلي عملية مقبولة من الجميع ، فالكل يتهافت عليه ، المتدين والعلماني سواء بسواء ، فقد أفسدت السلطة المطلقة ( السلطة بنكهتها الصومالية ) العرف السياسي .
وفزعت كذلك حين لاحظت التنمية ( الوهمية ) الموصوفة عند البعض بالمشاريع العملاقة في جيبوتي ، وقد تدخل في عالم جديد من الإستحمار ، فجيلة يهرب من الاستحمار الفرنجي إلي الإستحمار الصيني ، وهو أخطر بكثير من الإستعمار الغربي ، ويتم كل ذلك بغياب المشروع السياسي ، ووجود السلطة المطلقة ، وفقهاء الحضارة يؤكدون بأن السلطة المطلقة فساد مطلق .
لقد أقام مبارك قبل سقوطه عشرات من المشاريع العملاقة ، ولكنها انتهت بسقوطه ، فالمشاريع النهضوية تنحت من عقول الكبار ، ولكن هذه المشاريع ما هي إلا شراكة ما بين شركات صينية ، وشركات تابعة لجيلة فقط ماعدا مشروع القطار الأثيوبي ، وهو مشروع خالص للدولة الإثيوبية تبناها السيد ملس زيناوي في مشروعه ( أثيوبيا القائدة ) .
إن الفساد السياسي في الصومال تقودها مجموعة فاسدة ، لا تنتمي إلي العصر ، وليس لها انتماء حقيقيا الي الدين كمشروع ، والأغرب من ذلك أن هؤلاء تحولوا من رعاة للمصالح الصومالية إلي رعاة للمصالح القومية للدول الإقليمية ، فهناك من يمثل في الصومال المشروع الاثيوبي ، وهناك من يناضل لتسويق المشروع الإماراتي ، أو التركي ، أو السوداني والجيبوتي ، فكل هذه الدول لها سماسرة في التركيبة السياسية الداخلية ، فقد صنع المال الفاسد عالمه الفاسد .
إن الفساد المالي في جيبوتي أوجد بيئة طاردة للنخب الفكرية والعلمية ، فهناك اليوم المئات من العقول في الولايات المتحدة ، وفي كندا ، وفي سائر الدول الغربية ، كل هؤلاء يتهافتون علي الدول الغربية يهربون من جحيم الفقر والمرض ، والأغرب من كل ذلك أن الإعلام يتحدث عن نهضة حقيقية ، ولدينا من يصدق هذه الثرثرة الإعلامية ، والسبب أن الفقر صار عملية ممنهجة ، وأن الثروة التي بدأت تتكدس في البلد تحولت إلي جيوب الأحباب ، فهناك مصنع لإنتاج الألبان في جيبوتي وهي تابعة لأحد أبناء جيلة ، كما أن مصنعا أخر بدأ العمل في إنتاج المعكرونة الطويلة والقصيرة ، وهو تابع لأحد ابناءه كذلك ، وهناك شركة استيراد الأدوية وهي تابعة لإحدي بناته ، كما أن شركة الطيران تابعة لزوج إحدي بناته .
إن الفساد المالي تحول إلي فساد ممنهج ، لدينا وزيران هامان في التشكيلة الحالية ، أحدهما يمثل وزيرا سوبرمانا ، والآخر يمثل وزيرا ثقيلا ، وهما زوجان لابنتي العائلة الحاكمة ، فهو يصنع البيئة التي تنتج رجال الولاء ، وليس رجال الكفاءة ، وما أمر الدكتور عطاوي والاستاذ محمد طاهر إلا من هذا الباب ( أخرجوهم من قريتنا ) ، والسبب ( إنهم أناس يتطهرون ) ، فقد تعرض الأول لتشويه الشخصية من النظام سابقا ، بينما تعرض الأخر تهديدا وتصفية ، وهما من خيرة أبناء البلد فهما وتعليما وعملا .
في الأعوام الثلاثة القادمة ، سوف نرى كوارث سياسية خطيرة في هذين البلدين ( الصومال – وجيبوتي ) ، وسوف يبدأ كل واحد منهما رحلته نحو المجهول ، ذلك لأن الفساد تحول فيهما إلي مشروع ، والفساد لا ينتج إلا فسادا .

 

الاستاذ عبدالرحمن بشير

Comments

هنا تستطيع ان تترك تعليقا عبر حسابك في الفيسبوك دون إدخال الاميل او البيانات الخاصة بك

عن Saganto maqne

شاهد أيضاً

اثيوبيا تتخلف عن سداد ديونها وتدخل نفقا مظلما.

أديس أبابا – عجزت دولة إثيوبيا عن سداد ديونها للبنوك العالمية وقد تخلفت الحكومة الاثيوبية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.